وقفة مقارنة في الالتزام بالقانون بين الإدارة والقضاء

مقال أسبوعي ينشر كل سبت في جريدة الرياض

تقوم فكرة القضاء الإداري على مراقبة احترام الإدارة لأحكام القانون في جميع أعمالها أياً كان شكل هذه الأعمال، وهذا ما يُعرف بـ (رقابة أو حماية المشروعية). ومن أهم عيوب القرار الإداري التي يصبح معها هذا القرار مستحقاً للإلغاء، عيب مخالفة القانون، وذلك حين يصدر عن الإدارة خرقاً للقانون، إما برفضها الصريح لتطبيقه، أو في تطبيقه المعيب، أو في سوء تفسير القاعدة القانونية. وهذا يعني أن القواعد القانونية يجب أن تعلو على القرار الإداري فيكون خاضعاً لها ملتزماً بها، وليس العكس.

والقواعد القانونية ملزمة ٌأيضاً لأحكام القضاء وليس فقط لقرارات جهة الإدارة، فإن أحكام القضاء إنما تهدف إلى إلزام جهة الإدارة بالامتثال الصحيح للقانون، وبذلك يكون كل ٌمن القضاء والإدارة على حدٍ سواء خاضعين لحكم القانون.

إلا أن السؤال الذي يستحق المناقشة والوقوف عنده طويلاً هو: أيهما أكثر احتراماً والتزاماً للقانون؛ القضاء أم جهة الإدارة؟

وأعتقد أن من البدهي إدراك أن القضاء هو الأكثر التزاماً واحتراماً لحكم ونصوص القانون من جهة الإدارة، حتى إنه في كثير ٍمن الأحيان قد يجد القاضي نفسه أمام حكم ٍ قانوني ٍملزم ٍيمنعه من التصدي لبحث حق ٍمن الحقوق من الناحية الموضوعية، ويضطر القضاء للحكم بعدم قبول الدعوى شكلاً مع ما قد يظهر له من وجاهتها موضوعاً، مما قد يترتب عليه في بعض الأحيان ضياع لحقٍ من الحقوق لم يلتزم صاحبه بالجوانب الشكلية للدعوى. ومثل هذه الصورة تمثّل التزاماً صارماً وغير متراخ ٍمن القضاء بنص قانوني لا مندوحة له من الالتزام به.

وعلى الطرف الآخر تكشف مئات الدعاوى القضائية المنظورة أمام القضاء الإداري عن خروقات ٍواضحة ٍوكبيرة لنصوص القانون، في صور ٍيتعذر فهم دوافعها في كثير ٍمن الأحيان.

فهل ترجع هذه الخروقات والمخالفات الصريحة للقانون من جهة الإدارة إلى الجهل بأحكام القانون؟ أم أن السبب هو في ضعف ثقافة احترام القانون وأهمية الالتزام به لدى بعض مسؤولي وموظفي جهات الإدارة؟ أم أن ذلك بسبب استشعار بعض المسؤولين بأن إرادته وقناعته الشخصية أهم من حكم القانون؟ أم أن للفساد ودوافعه الشخصية أثراً في بعض حالات خرق القانون؟ أم ماذا بالضبط؟.

وفي الحقيقة إن كل تلك الأسباب صحيحة، وأن مثل هذه الخروقات المستمرة والمتكاثرة لأحكام القانون في قرارات وتصرفات جهات الإدارة، تمثّل عبئاً كبيراً على كاهل القضاء الذي يتصدى لآلاف الدعاوى القضائية التي تدور حول القرارات الإدارية المعيبة بعيب مخالفة القانون، كما تمثّل هذه الخروقات أيضاً عبئاً ضخماً على ميزانية الدولة من خلال أحكام التعويض - على ضعف مخرجاتها-.

ومبدأ سيادة القانون واحترام أحكامه يعتبر من أهم المعايير التي تعنى بها المنظمات الدولية ومراكز التصنيف والتقييم لأنظمة الدول في العالم، وتصدر سنوياً إحصائيات تكشف مدى تمايز الدول في هذا الجانب، بين دول يرتفع فيها مستوى احترام وسيادة القانون إلى أعلى مستوياته، لدرجة ٍ تشجّع على العيش والاستثمار والعمل في تلك الدول، وتشعر مواطنيها والمقيمين فيها بالثقة والطمأنينة والأمان، ودول ٍيقلّ فيها هذا المعيار وقد تكون في مراكز متأخرة كثيراً بصورة ٍ تعكس ضعفاً حضارياً، وسمة سلبية تؤثّر على جذب تلك الدول للاستثمارات الخارجية، ومستوى ثقة مواطنيها والمقيمين فيها بقوانينها.

وهذه قضية ٌ ليست هامشية ولا من ترف البحث؛ بل هي من أولويات القضايا وأهمها وأخطرها، وتستدعي ضرورة جعلها على رأس أولويات الإصلاح الإداري، سيما ونحن في خضم التخطيط والعمل الدؤوب لتحقيق الرؤية الوطنية 2030، التي لا يمكن لتحقيقها ونجاحها أن يتم على أحسن وجه ما لم تبذل الجهود المضنية لرفع مستوى التزام جهات الإدارة بحكم القانون في كل قراراتها، والتعامل الجدي مع كل الحالات التي تمثل خروقاً لهذا المبدأ بما تستحقه من تقويم ٍ ومحاسبة ٍومعالجة.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني