هيئة الأمر بالمعروف والاحتساب على التطرف

الهيئة
مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
في خطوة موفقة وغير مسبوقة سرّني كثيراً توجيه معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ الدكتور عبدالرحمن السند، بإدراج قضايا الانحرافات الفكرية والتطرف والغلو ضمن الجرائم المعلوماتية التي تعمل الهيئة على معالجتها، من خلال الوحدة المتخصصة في الهيئة لملاحقة هذه الجرائم. لقد ظلّت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منذ تأسيسها تقريباً وهي تعنى في المقام الأول بإنكار ومعالجة المعاصي والذنوب في جانب التقصير والتفريط في الواجبات أو ارتكاب المحرمات، بينما لا يكاد يذكر للهيئة أي نشاط في جانب إنكار الغلو في التدين والتطرف والتشدد الذي أصبح اليوم أخطر على الأمة كثيراً من جانب الجفاء والتقصير الذي يرتكبه بعض العصاة في السلوك والأخلاق والتقصير في العبادات والواجبات. وهذه القضية على وجه الخصوص كانت تشغل حيزاً كبيراً من تفكيري عبّرت عن شيء من خواطري حولها في مقال لي بتاريخ 25 /3/ 1434ه في هذه الصحيفة بعنوان (قراءة مختلفة لحديث السفينة). والمقصود بحديث السفينة هو الحديث المشهور في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا) ومن هذا الحديث أخذت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعارها الذي تضمن صورة رمزية لسفينة المجتمع. وفي ذلك المقال استعرضت أنه لا ينبغي قصر تفسير وتطبيق الصورة الواردة في هذا الحديث النبوي العظيم لأولئك القوم الذين يحاولون خرق سفينة المجتمع بأن المقصود بهم فقط (العصاة ومرتكبو ذنوب الشهوات) بل ينبغي أن ندرك بأن أهل الشبهات وعلى رأسهم أصحاب فكر التطرف والغلو هم أعظم خطراً وأكثر فساداً وضلالاً من العصاة في معاصي الشهوات. واليوم يأتي قرار معالي رئيس عام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مؤكداً لهذه الحقيقة، ومدركاً تمام الإدراك لخطر هذا الفكر الضال، ومستشعراً تماماً الدور الواجب والمأمول أن تضطلع به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمواجهة هذا الفكر الضال المتطرف. وإذا ما عرفنا أن أساس القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الغيرة على محارم الله أن تُنتهك، والغضب لله أن تؤتى محارمه، فإن ذلك يقودنا إلى أن نؤكد على ضرورة أن تنضبط هذه الغيرة الإيمانية، والحرص على صلاح وإصلاح المجتمع، والحماس لمواجهة العصاة، أن ينضبط كل ذلك بضوابط الشرع المطهر، وأن نؤكد على جميع إخواننا من منسوبي الهيئة ورجال الحسبة، أن يحذروا كل الحذر من انفلات زمام هذه الغيرة، لئلا تقودهم إلى الغلو في الدين، والخروج عن أحكام الله من الجانب الآخر المناقض لجانب معاصي أهل الشهوات، فيخرجوا عن المنهج السواء الذي أمرهم الله به، وربما وقعوا فيما هو أشرّ وأضل مما كانوا بالأمس ينهون عنه من المعاصي والذنوب، فيقودهم ذلك إلى تكفير المسلمين، واعتقاد ضلال المجتمعات الإسلامية، إلى غير ذلك من أفكار الضلال التي ما شوّه الإسلام وأساء إليه في عصرنا الحاضر أكثر منها. ولا يخفى أن مساهمة أعضاء الهيئة ورجال الحسبة في تتبع وملاحقة جرائم التطرف الفكري والغلو الديني، إن ذلك بمثابة الحصانة لأعضاء الهيئة والتوعية العملية المباشرة لهم عن أضرار وضلالات هذا الفكر المنحرف، ولفت أنظارهم إلى أن هذه الجرائم من أعظم المنكرات التي يقع في أولويات عملهم محاربتها وإنكارها وحماية المسلمين من شرها. أما فيما تضمنه توجيه معالي رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من البدء في معالجة وتتبع جرائم التطرف والغلو التي تستخدم وسائل التقنية والاتصال والتواصل لبث سمومها، فإن هذه الخطوة المشكورة تعتبر مساهمة لا يستهان بها من قبل جهاز الهيئة الموقر، إلى جانب سائر وزارات وأجهزة الدولة الأخرى التي تعنى بهذا الجانب، وعلى رأسها وزارة الداخلية وهيئة التحقيق والادعاء العام، والتي تنتهي إلى ساحة القضاء ليطبق فيها أحكام الشريعة والأنظمة ذات الصلة على كل من ثبت تورطهم في هذا النوع من الجرائم. فأحمد الله الذي وفق معالي الشيخ عبدالرحمن السند وزملاءه من أصحاب الفضيلة منسوبي الهيئة إلى هذه الخطوة المباركة، وأسأله سبحانه أن يوفقهم ويعينهم لإنجازها على أحسن الوجوه، مؤملاً أن يشهد المجتمع للهيئة نجاحات كبرى في هذا المضمار، أسوة بما لها من سبق وتميز في سائر ميادين أعمال الحسبة وصيانة دين وأخلاق المجتمع. والحمد لله أولاً وآخرا.
الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني