مع أو ضد التيار.. هل يليق هذا المعيار؟

رأي
مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
كلما طرح أحدٌ فكرة أو عبّر عن رأي في قضية من القضايا أياً كان مجالها، وبقدر ما يكون عليه هذا الشخص من حضور أو مستوى تأثير أو عدد متابعين، يكون النقاش دوماً حول هذه الفكرة والرأي المطروح بين القبول والتأييد، أو الرفض والاستنكار. وإذا كان موضوع الفكرة من قضايا الرأي العام أو التي يكثر الجدل حولها، فغالباً ما يتردد صاحب الرأي أو القلم سواء أكان كاتباً أم داعية أم طالب علم أم حتى مفتياً عن التصريح برأيه في تلك القضية، خاصة إن كان رأيه لا يتفق مع التوجه العام للجمهور. وكثيراً ما يكون المعيار الذي يحكم صاحب الرأي والفكرة في طرحه لرأيه والتعبير عن فكرته هو: (هل هذا الرأي يتوافق مع تيار الرأي العام للجمهور أم ضد التيار؟). وإذا كان الرأي متوافقاً مع التيار فالكل هنا يتحلون بالشجاعة ولا يترددون في طرح ما لديهم من آراء، أما إن كان ذلك الرأي يخالف توجه التيار العام للناس، فالأعمّ الأغلب أن صاحب الرأي يمسك عن التصريح برأيه ويختار طريق السلامة، وعدم احتمال ضغط الجمهور وهجومهم عليه. كما أن هناك شريحة أخرى من الناس – وإن كانوا قلة – يميل إلى الآراء التي تثير الدهشة وتخالف السائد المتعارف عليه، لا لشيء سوى الرغبة في جلب الأضواء ولفت انتباه الناس إليه، على طريقة: (خالف تُعرف) وهذه الفئة من الناس يختارون دوماً في طرح آرائهم معيار: (ضد التيار). والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يليق بذي رأي وفكر أن يكون معياره في التعبير عن رأيه هو: (هل أنا مع أو ضد التيار؟). أجزم بأن إجابة كل من يقرأ سؤالي هذا هو: (لا، لا يليق هذا المعيار بصاحب رأي وفكر) إلا أن الواقع الذي نعيشه، وأسلوب تعاملنا مع الآراء والنقاشات والرؤى، يؤكد أننا لسنا صادقين مع أنفسنا في هذه الإجابة. إذ نكاد نتفق على أنه لا يليق بصاحب رأي وفكر أن يكون معياره في طرح آرائه هو مراعاة كونها مع أو ضد التيار؛ إلا أن هجومنا واستنكارنا لكل رأي يخالف السائد المألوف لدينا يؤكد أننا لا نقبل أبداً أي آراء تكون ضد التيار، ونعيب على صاحب الرأي طرحه لرأيه الذي يخالف قناعاتنا السائدة. وبقدر ما يكون عليه صاحب الرأي من مكانة علمية أو فكرية أو ثقافية، وبقدر مستوى متابعيه وكثرتهم ومدى تأثرهم بما يطرح، تكون مسؤوليته أشدّ وأعظم من غيره، ويكون معيباً في حقه أكثر أن يتجاهل معايير الصدق والنصح وتحري الصواب في طرح رأيه، وينحاز إلى معيار (الشارع) و(الرأي العام) و(ضغط الجمهور). إن استمرار ذوي الرأي والفكر، وحملة الأقلام، وقادة العلم، في التعامل بمعيار (مع أو ضد التيار) يقتل الحقيقة، ويحجب شمس الوعي، ويصادر روح التجديد والإبداع، ويبقينا أبد الدهر أسرى التقليد والتبعية العمياء، وتعطيل عقولنا وتجاهل ما أمرنا الله به من التفكر والتفكير والبحث والتجرد في الرأي. وهذه المشكلة العميقة لا تخرج لنا إلا أجيالاً غارقة في التبعية، بعيدة عن الحق والحقيقة، ممتلئة بالجبن والخور والضعف الفكري والروحي. ولا يمكن أن تتحقق نهضةٌ أو ينتشر علمٌ بمثل هذه الروح وعلى أكتاف مثل هذا الجيل. وإذا كان جزء من المسؤولية يقع على جماهير الناس الذين يجب أن يعوا بأن من غير المقبول الهجوم على رأي ذي رأي أو الانتقاص منه والتعنيف عليه لمجرد أن رأيه يخالف السائد المألوف لديهم؛ إلا أن جزءاً أكبر من هذه المسؤولية يقع على عاتق ذوي الرأي والفكر والعلم المؤثرين في المجتمع، الذين يساهمون بشكل مباشر في تفشي هذه الظاهرة، ويعتبرون سبباً رئيساً لاستمرارها، وذلك بارتكابهم خطيئتين هما: أولاً: أنهم غالباً ما يكونون من المتدثرين بهذه القناعة، الرابضين تحت وطأتها، بعدم تعبيرهم عما يرونه من آراء أو يدركونه من حقائق علمية، خشية سطوة الجماهير ومعارضة الرأي العام. ثانياً: أنهم قد يسهمون في تأجيج سطوة سلطة الجماهير على أرباب الرأي والفكر، بعدم استنكارهم لهجوم الناس على صاحب رأي عبّر عن رأيه أو ذي قلم طرح رؤيته – رغم إدراكهم في كثير من الأحيان أن لهذا الرأي وجاهته أو على الأقل دخوله في دائرة الاجتهاد المقبول، بل قد يكون بعضهم يتفق مع صاحب هذا الرأي لكن يمنعه الجبن والضعف من التصريح بذلك – وأحياناً يكون لبعض ذوي الرأي والتأثير دورهم – غير الشريف – بالمساهمة في الهجوم على الرأي المخالف وتأجيج الجماهير ضده. وإذا كان التقيد بهذا المعيار الجماهيري أمراً غير مقبول في الأصل، إلا أن تأثيره أيضاً يختلف بحسب أهمية القضية المطروحة، ومساسها بدين المجتمع أو ثقافته أو حتى أمنه واستقراره، فقد يُعذر ذو الرأي حين يلوذ بجانب السلامة ويختار الصمت عن الإدلاء بما يراه حقاً في قضية عادية، إلا أنه يُلام ويعاب عليه إذا اختار الصمت عن قول الحق في مسألة تمسّ الحاجة إليها، أو تخلى عن نصرة ذي رأي وقلم وفكر يتعرض لهجوم الجماهير وانتقادهم في مسألة مما يسوغ فيها الخلاف، ويكون للرأي المخالف أحياناً وجاهته. إن من أساسيات النهوض العلمي والثقافي بالمجتمعات، أن نتجرد للبحث العلمي، والتفكير الإبداعي، والطرح الثقافي الإيجابي الهادف، بعيداً عن التأثر بضغط التيار ومدى موافقته أو مخالفته. وإن ذلك يتطلب درجة متقدمة من الوعي، وقدراً عالياً من الشجاعة العلمية، فمن يبادر لنيل هذا الشرف؟
الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني