معاني الحج بين الأمل والألم

الحج
مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
يتجدد موسم الحج كل عام. وتتوجه القلوب والأبدان إلى بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة من كل بقاع الأرض أفواجاً. استجابة لأمر الله سبحانه لعباده المسلمين أن يحجوا هذا البيت تعظيماً لله وإقامة لتوحيده عز وجل. ومع تجدد هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة، يتجدد الحديث عن أبرز معانيها، وأهم غاياتها ومقاصدها، التي يأتي على رأسها الغاية الأسمى والمعنى الأعظم وهو إقامة توحيد الله وإفراده سبحانه بالعبادة. وفي ظل ما تشهده الأمة الإسلامية اليوم – أكثر من أي وقت مضى – من حالة تمزق وشتات، وضعف وهوان، وتسلط أبنائها بعضهم على بعض، بعد أن كانت الشكوى من تسلط عدوهم عليهم، يصبح الحديث عن معاني الحج وربطها بهذا الواقع الأليم أمراً في غاية الأهمية. كم تختلط في قلبي مشاعر الأمل والألم في آن واحد، وأنا أرى جموع الحجيج تتوافد على الأرض المقدسة ملبّين مكبرين مهللين. جموع لا يربطها إلا رباط واحد هو الإسلام، جمع الله به شملهم، ووحّد مقصدهم، وأتى بهم جميعاً إلى بقعة واحدة تختلج قلوبهم بحبها وتعظيمها، فيهم الأحمر والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي. ثقافاتٌ مختلفة، وألسنة متنوعة، ومشارب شتى. لولا أن الله عز وجل ألّف بينهم لما استطاعت أيُ قوة في الأرض أن تجمعهم على ما اجتمعوا عليه من عبادة وشعائر ومشاعر. هاهنا مبعث الأمل، والفرح والسرور، والرجاء في الله عز وجل بمنّه وكرمه كما جمعهم هذا الجمع، ووحّد بينهم في هذه العبادة، أن يكتمل عقد الألفة والاجتماع بينهم في كل أمورهم، وأن تدوم هذه الوحدة وتمتد إليهم وهم في أوطانهم، ليكونوا يداً واحدة على من سواهم، وأمة موحدة على منهج ربهم الذي هداهم. وكلما ضعف الأمل، وازداد الكرب والخطب بهذه الأمة الممزقة المكلومة، يأتي موسم الحج ليذكّرها بوحدة قضيتها، وتوحيد ربها الذي متى ما استجابت لأمره سبحانه عادت أمة عزيزة شامخة قائدة. أما مبعث الألم فهو أننا نرى هذه الجموع تأتي قاصدة رباً واحداً، تسعى لشعيرة واحدة، يجمعهم الإسلام، ويتفقون في الأفعال والأقوال خلال موسم الحج، بل حتى في اللباس لا يتميز بعضهم عن بعض، حتى إذا نظرتهم العين إذا بهم يمثّلون أعظم نماذج الوحدة والقوة والاجتماع، إلا أنهم ما إن يرجعون إلى بلدانهم حتى يعودوا أمماً وشيعاً وأحزاباً يقتل بعضهم بعضاً، ويظلم أحدهم أخاه، وتسود بينهم أبشع صور العداوة والبغضاء، وبدلاً عن أن يرعى بعضهم لأخيه حق أخوة الإسلام، إذ به يتنكر حتى لرابطة الإنسانية التي تجمعهم، ويتمرد على أبسط معانيها، بالقتل والظلم والعدوان. إنه والله لأمرٌ في غاية الحيرة، يصعب تصديقه أو تصوره، أن ينقلب هؤلاء البشر المجتمعون في صعيد واحد، موحدة صفوفهم، مجتمعة مشاعرهم، بمجرد انقضاء شعائرهم، إلى ممارسة أبشع صور العداوة والبغضاء التي يمكن أن تقع بين إنسان وأخيه الإنسان. إن ثمة سؤالاً كبيراً يجب طرحه، والعناية ببحثه، ألا وهو: ما الذي جعل الأمة الإسلامية تعيش حالة الانفصام العظيمة هذه؟ وما السبب الحقيقي وراء هذا التناقض والتحول غير المتصور بين أعظم صور الوحدة والائتلاف، إلى أبشع مظاهر العداوة والاختلاف؟ ألا يكفي عظمة ما اجتمعوا عليه من الدين وعبادة رب العالمين، وبدت أبهى صوره في شعيرة الحج؛ ألا يكفي ذلك قاعدة صلبة تتوحد عليها قلوبهم ومشاعرهم ومواقفهم؟! هل يُعقل أن هذه الأمة التي كانت بالأمس تقف موقفاً واحداً، وتدعو دعاء واحداً، وتختلط دموع ومشاعر أفرادها، ويأخذ قويهم بيد ضعيفهم، ويطعم غنيهم فقيرهم، أنهم هم الذين يقتتلون اليوم في مكان آخر! هل تكفي الفوارق ودواعي الاختلاف البشري الطبيعية التي لا يمكن إلغاؤها ولا إنكارها، لتحيل هذه الأمة الواحدة إلى حال من العداوة والبغضاء والتناحر والفرقة لا يمكن معالجتها ولا تخفيف آثارها؟ ألا تطغى وحدة الدين، وأنهم جميعاً يعبدون رباً واحداً، ويتبعون رسولاً واحداً، ويقرأون كتاباً مقدساً واحداً، على ما بينهم من اختلافات وعداوات لتتلاشى وتذوب، ويحلّ محلها الاجتماع على ما اتفقوا عليه من مشتركات وأمرهم به دينهم من حقوق الأخوّة في الإسلام؟ إن على قادة وعلماء وعقلاء المسلمين أعظم الواجب بتذكير المسلمين بمعاني هذا الحج العظيم، وإحياء مقاصده في نفوسهم، والانطلاق منه إلى توحيد القلوب وجمع الصفوف، واستمرار أثر وحدة المسلمين في الحج لتكون وحدة دائمة في كل مكان وزمان. وإن مما أنعم الله به على هذه البلاد وعلى المسلمين عامة، أن جعل الله الإشراف على الحج تحت قيادة هذه الدولة المؤمنة الموحدة، التي لولا الله ثم إيمان وحكمة وسلامة عقيدة قادتها، لرأينا مظاهر فرقة المسلمين واختلافهم في بلدانهم، تمتد إلى الحصن الأخير وتقتل الأمل الوحيد في مشاعر الحج، وإذاً لرأينا لكل فرقة من المسلمين حجاً، ومظاهر، وطقوساً تختلف عن سائر المسلمين، ولظهرت كل مظاهر اختلافهم في العقائد والمذاهب والطرق على حجهم، فقضى ذلك على معنى الحج، وبقي المسلمون بلا أمل. فعسى الله أن يجزي قادتنا على ما يبذلونه في الحج خير الجزاء، وأن يدفع عنهم بذلك كل سوء وبلاء، وأن يوفقهم إلى مزيد من الخير والعطاء آمين. والحمد لله أولاً وآخرا.
الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني