رؤية في إجراءات قضايا الفساد

من الضروري التأكيد على أنه ليس من المقبول أن يتصدى أي أحد مهما كان افتقاره إلى التخصص إلى طرح رأيه بالانتقاد أو المعارضة دون أدنى إلمام بالأسس والمبادئ التي تحكم هذه القضايا من الناحية الشرعية أولاً والقانونية ثانياً..

خاض الناس كثيراً في الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها الدولة في التعامل مع المتهمين في قضايا الفساد الكبيرة المرتبطة بالمال العام، حيث صدر الأمر الملكي الكريم مؤخراً بتشكيل لجنة خاصة لتتبع قضاياهم والتعامل معها بما تقتضيه المصلحة العامة، وقد جاء التناول العام لهذه الأحداث مختلفاً بحسب اختلاف مستويات المعلقين، فمنهم من يتساءل عن مدى عدالة تخصيص احتجاز هؤلاء المتهمين في مكان إقامة ٍفاخرة مثل فندق الريتز الشهير، وما المبرر لعدم احتجازهم في الأماكن المخصصة لاحتجاز كافة المتهمين من سائر الناس؟ كما طرح البعض فكرة المطالبة باخضاعهم للمحاكمة وعدم الاكتفاء بالتسوية الودية معهم وإطلاق سراحهم، إلى غير ذلك من تعليقات لم تصدر غالباً عن متخصصين في الشريعة والقانون، مما يجعل من المناسب للمتخصص أن يدلي برأيه ويوضح -حسب معرفته- الموقف الشرعي والقانوني من هذه الإجراءات.

ولعلي هنا أحاول طرح رؤية مختصرة حول هذا الموضوع في النقاط التالية:

أولاً: بادئ الأمر فإن من الضروري التأكيد على أن المرجع الأساسي لمثل هذه القضايا هو إلى أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة ونصوصها الخاصة، وهي الشريعة المطبقة في المملكة بفضل الله، ثم إلى ما يليها من نصوص نظامية ٍتفصيلية بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة.

وفي هذا الشأن فإن من الأسس التي يقوم عليها التشريع الإسلامي أن الحاكم وولي الأمر الأعظم هو المرجع الأول لكافة سلطات الدولة، فهو الذي يمنح السلطات والاختصاصات ويوزعها، وهو الذي يقرر في المسائل العامة بما تقتضيه المصلحة، وهو الشخص الذي منحته الشريعة مساحة ً واسعة ً في تقدير المصالح والمفاسد، وفي سن الأحكام والأنظمة فيما لم يرد به نص خاص في الشرع، بما يدخل تحت مظلة ( السياسة الشرعية ) وهذا بابٌ واسعٌ عظيمٌ تناوله الفقهاء وعلماء الإسلام قديماً وحديثاً، وعلى أساسه جاءت الكثير من التصرفات التي صدرت عن الخلفاء الراشدين ومن تلاهم من خلفاء وملوك الإسلام العظام.

والإسلام حين منح الحاكم وولي الأمر هذه السلطة العظيمة فإنه لم يتركها مطلقة مفلوتة تتحكم فيها الأهواء والرغبات؛ إنما أكد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على أنها أمانة عظيمة، ومسؤولية ثقيلة، سيُسأل عنها من تولاها، وهو مؤتمن أمام الله عز وجل ألا يستعملها إلا بما يرى فيه مصلحة رعيته ، وتبعاً لذلك قرر علماء الإسلام وفقهاؤه قاعدة شرعية عظيمة تقول:

"تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة" ولهذه القاعدة شروح وتفاصيل كثيرة ليس هذا مكان استقصائها.

من هذا المنطلق الشرعي العظيم جاء أمر خادم الحرمين الشريفين أيده الله بتشكيل اللجنة العليا لحصر قضايا الفساد العام وملاحقة المتهمين فيها، وتكليف سمو ولي العهد حفظه الله برئاستها، ونص هذا الأمر على استثناء إجراءاتها من الأنظمة والتنظيمات والتعليمات، وهذا كما أشرتُ آنفاً خاص بالتنظيمات والأنظمة التي يصدرها ولي الأمر بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة، فهي من السياسة الشرعية التي يملك ولي الأمر التعديل عليها أو الاستثناء منها بما يراه محققاً للمصلحة، وهذا خاصٌ فقط بالإجراءات التي هي بمثابة الوسائل لتحقيق مقاصدها، فمتى رأى ولي الأمر المصلحة في استبدال وسائل بأخرى أجدى منها كان ذلك من صميم سلطته.

ثانياً: لا يمكن لأحدٍ أن ينكر أن توجه إرادة ولي الأمر -أيده الله- نحو محاربة الفساد، واستعادة الأموال المهدرة من المال العام جراء ما ارتكبه البعض ممن استغل سلطته ونفوذه، لا يتعارض تحقيق هذه الغاية الشرعية الشريفة مع مراعاة جوانب أخرى ذات أهمية أبرزها أنه في بداية صدور الأوامر بالتحفظ على بعض الشخصيات أن ذلك ليس بمثابة صدور أحكام قضائية بإدانتهم بارتكاب تلك الجرائم، فالقول الفصل في ذلك يكون للقضاء وحده، كما أن هؤلاء الذين جاء الأمر بالتحفظ عليهم لهم مكانتهم المعروفة، ولا يجادل أحدٌ أن أغلبهم كانوا رجال دولة تولوا العديد من المناصب العليا وأن لهم حسناتهم الكثيرة، التي لا يلغيها ما قد يكون ثبت عليهم من مخالفات أو حتى جرائم فساد، لأن كل إنسان عرضة للوقوع في شباك الجريمة خاصة ما كان دافعها الطمع وحب المال، وبالتالي فإن من صميم العدل الذي يأمر به الإسلام، ومن مروءة الخلق العربي الكريم أن لا يتعرض من كانوا كذلك للإهانة أو الحط من مكانتهم بالقدر الزائد عن تطبيق حكم الشرع والنظام عليهم واستعادة ما قد استولوا عليه دون وجه حق إلى خزانة الدولة، وهذا يبرر التحفظ عليهم في مكان يحفظ لهم القدر اللائق من التكريم والرعاية.

وقد جاء في الحديث المعروف قوله صلى الله عليه وسلم:" أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" وقد علّق ابن القيم على هذا الحديث بقوله:" والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصّهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، وأديل عليه شيطانه فلا نسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته ما لم يكن حداً من حدود الله.. وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة".

وبالتالي فإن أمر محاكمتهم من عدمه منوط بصلاحيات وسلطة ولي الأمر كما أشرت، وأنه متى رأى المصلحة في استعادة الأموال المسلوبة وإنهاء الملاحقات الجنائية بحق الأشخاص المتورطين في هذه القضايا فإن ذلك مما لا ترفضه الشريعة بل قد تأمر به وتحث عليه.

وعلاوة عما أشرت إليه أن مرجع هذه القضايا في المملكة إلى أحكام الشريعة وأن موقف الشريعة هو كما أوضحت؛ إلا أنه حتى على مستوى القوانين في كافة الدول يحدث كثيراً وبشكل مستمر أن تنتهي الكثير من الجرائم بتسويات ودية ما لم يكن فيها حقوق خاصة، وذلك بما يقرره صاحب السلطة سواء كان النائب العام أو المدعي العام أو غيرهم من التوصل إلى تسوية تستهدف المصلحة العامة وترجع مصالحها على مفاسدها.

وفي هذا السياق من الضروري التأكيد على أنه ليس من المقبول أن يتصدى أي أحد مهما كان افتقاره إلى التخصص إلى طرح رأيه بالانتقاد أو المعارضة دون أدنى إلمام بالأسس والمبادئ التي تحكم هذه القضايا من الناحية الشرعية أولاً والقانونية ثانياً.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني
الأوسمة: