تقييم أداء الإدارات القانونية في الجهات الحكومية

مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
ما من جهة حكومية سواء أكانت وزارة أم هيئة أم غير ذلك إلا وفيها إدارة قانونية يعمل بها عددٌ من المستشارين الشرعيين والقانونيين، ورغم أهمية الدور المنوط بهذه الإدارات القانونية وتنوع اختصاصاتها إلا أن الواقع يشهد بالضعف الكبير في فاعلية وأثر هذه الإدارات، وإن أبرز دور تقوم به لا يتجاوز تمثيل الجهة الحكومية في الترافع أمام ديوان المظالم، لترقيع أخطاء مسؤولي تلك الجهة التي تدور حولها مواضيع الدعاوى القائمة، والنقل السطحي المتواضع لرأي الجهة الحكومية التي يمثلها هذا المستشار، سواء أكان هذا الرأي متفقاً مع صحيح النظام والفهم السليم للقانون أم لا. وبالتفاتة إلى ما عليها الحال في تلك الإدارات القانونية المنتشرة في الجهات الحكومية نجد أن منسوبيها من المستشارين، غالباً لا يملكون صلاحية العمل وإبداء الرأي القانوني المجرد الذي يعرفونه جيداً، وإنما يكتفون بمحاولة حماية الجهة التي يعملون فيها من أي تبعات قانونية تترتب على تصرفات منسوبيها وأخطائهم. فأصبحت تلك الإدارات القانونية ليس لها من اسم القانون إلا النزر اليسير، وتحولت إلى مجرد أقسام إدارية لا تختلف عن سائر أقسام الجهة الحكومية التابعة لها. فهل مثل هذا الوضع القائم يعتبر سليماً ومحققاً للمصلحة العامة؟ وهل تعتبر تلك الإدارات القانونية في مثل هذه الحالة، قائمة بالدور المفترض بها تأديته من القيام على حراسة والدفاع عن التطبيق الصحيح للقانون سواء أكان مع أم ضد الجهة التي تتبعها؟ وهل تحقق في ممثلي الجهات الحكومية الذين يترافعون أمام القضاء الإداري عن إداراتهم، صفة (الخصم الشريف) التي تطلق في القضاء الإداري على ممثل جهة الإدارة، باعتباره يمثل المصلحة العامة ويدافع عن صحيح القانون، أم أنهم أصبحوا عقبة في وجه التطبيق الأمثل للقانون، وباتوا يعملون بعيداً عن كل الأسس والمبادئ القانونية التي تعلموها؟ هذه جميعها أسئلة ملحّة تبحث عن إجابة دقيقة واقعية ننطلق بعدها إلى تصحيح العوج، وتدارك الخلل، والإفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال، ووجد فيها تطبيقات أمثل لتحقيق الصالح العام. إن أخطر الأدوار التي تقوم بها الإدارات القانونية في الجهات الحكومية يتمثل في جانبين مهمين هما: (تمثيل الإدارة أمام القضاء)، و(تقديم الفتوى القانونية للإدارة فيما تحتاجه أثناء مباشرة أعمالها). وحتى تقوم الإدارة القانونية في أي جهة حكومية بهذا الدور المهم على أحسن الوجوه؛ لابد لها من توافر عنصرين أساسيين لا يمكن دونهما أن تحقق هذه الغاية، وهذان العنصران هما: (الاستقلال التام عن التبعية للجهة الحكومية وتأثير المسؤولين فيها)، و(توفر الكفاءات القانونية والشرعية ذات المستوى العالي من العلم والخبرة والفهم القانوني). وبالنظر إلى هذين العنصرين المهمين نجد أن المستشار القانوني لجهة الإدارة أصبح أشبه ما يكون بمنسوبي القضاء ورجاله، وهذا يفترض أن يتحقق له قريباً مما تحقق لهم من كادر وظيفي يكفل لهم المزايا المادية والمعنوية التي تعطى لأمثالهم من رجال القانون النابهين العاملين في القطاعين العام أو الخاص. وكل هذه الجوانب التي أشرتُ إليها لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال إنشاء جهة حكومية مستقلة تحت إشراف أو حتى تبعية وزارة العدل، تحت مسمى (هيئة قضايا الدولة) أو أي مسمى مناسب، تتكون من عدد كاف من رجالات القانون يناط بهم الدور الأساسي الذي تقوم به الإدارات القانونية الحالية في الجهات الحكومية. وقد سبق لي أن طرحت هذا المقترح في مقال بتاريخ 1 / 2 / 1435ه وإني لأرى كل يوم أن الحاجة أصبحت تشتد إلى المبادرة بتنفيذ هذه الفكرة، حتى نكون أكثر قرباً إلى التزام كل الجهات الحكومية بالتطبيق الصحيح للقانون، ويكون ممثلو جهة الإدارة أمام القضاء أعواناً حقيقيين للقضاء، ورجال قانون يحملون همّ حماية الحقوق والتطبيق السليم لنصوص القانون، دون أي محاباة للجهة التي يمثلونها، أو الخضوع لتأثير المسؤولين فيها وتلقي الأوامر منهم. عندها سيكون المردود إيجابياً، والثمار يانعة، للمصلحة العامة، وللقضاء الذي يعاني حالياً من سلبية الدور الذي يقوم به ممثلو الجهات الحكومية، وللأفراد الذين يسلكون طريق القضاء للمطالبة بحقوقهم، فلا يكون ممثل الإدارة عقبة في وجه وصول الحقوق لأصحابها، ومجرد ناقل رأي إدارته للمحكمة دون أدنى إيمان منه وقناعة بصواب هذا الرأي. لقد بلغت الحال بالإدارات القانونية في بعض الجهات الحكومية أن تحولت إلى إدارة تختص ببذل كل الجهد لتعطيل القانون، وإضاعة الحقوق، بل وحتى (تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد تلك الإدارات) من خلال التفنن في البحث عن ذرائع تحت غطاء القانون لمحاولة إيجاد ثغرات في الحكم القضائي تحول دون تنفيذه!. وفضلاً عن كل ذلك فإن الوضع الحالي للإدارات القانونية الحكومية لا يساعد على استقطاب الكفاءات القانونية المميزة، بل كلما اكتسب بعضهم خبرة جيدة ومهارة معقولة، تسرب للبحث عن فرص عمل أكبر مردوداً مادياً في القطاع الخاص أو العمل الحر، ويكاد لا يبقى إلا من هم أقل كفاءة وأضعف خبرة، وهذا ما يزيد تلك الإدارة القانونية وهناً على وهن. وإن الإنجازات الضخمة الكبيرة التي تحققت – بفضل الله – في ميدان القضاء والحقوق والتنظيمات العدلية والحقوقية، تحدونا للأمل العريض في إلحاقها بتنفيذ هذه الفكرة المهمة، وتحقيق هذا المطلب الضروري، وفي خيرات وطننا ورجاله آمالٌ لا تنتهي. والحمد لله أولاً وآخرا.
الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني