تدخّل بعض السعوديين في شؤون الآخرين

مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
من ثوابت السياسة السعودية الخارجية، عدم تدخل المملكة في شؤون الآخرين، والتأكيد المستمر على رفض تدخل الآخرين في الشأن السعودي الداخلي. وهذا المبدأ الذي تتفق كل دول العالم على وجوبه – وإن اختلفوا في الالتزام به وتطبيقه – يقوم أساساً على احترام سيادة الدول الكاملة والمستقلة على أراضيها، وعلى إدارة شؤونها بالطريقة التي يتفق عليها شعوبها مع قادتهم. ولا يكاد حديثٌ يطغى هذه الأيام على تكرار الكلام عن هذه القضية الشائكة، وتكاد أن تكون هي قضية الساعة، وهي القاسم المشترك لكل ما تمرّ به المنطقة من أزمات وحروب وانقسامات بين الدول، أو داخل الدولة الواحدة. إذ ما يكاد يمرّ يوم دون أن نسمع تراشق الاتهامات بين الدول المنقسمة على أن احداها تتدخل في شؤون الأخرى الداخلية، وهكذا تتكرر المطالبات من الدول والتحذير من أن يتدخل أحدٌ في شؤونها. هذا كله فيما يتعلق بقواعد التعامل السياسي فيما بين الدول ممثلة بالسياسات الخارجية لحكوماتها؛ أما حديثي اليوم فأتناول هذه القضية من زاوية مختلفة وذلك فيما بدأ يطغى على السطح مؤخراً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، من كثرة إقحام بعض السعوديين أنفسهم في الحديث عن قضايا وشؤون الدول الأخرى الداخلية، ومناقشة ما يجري داخل تلك الدول أو ما تصدره حكوماتها من قرارات تتعلق بالشؤون الداخلية لها، أو حتى ما يصدر عن قضاء تلك الدول من أحكام قضائية، فتصبح تلك المسائل مرتعاً للخوض والجدل والتراشق من قِبل بعض السعوديين الذين لا شأن لهم بها ولا تمسهم في حقوقهم ولا مصالحهم، وليست شأناً من شؤون بلادهم. لقد بدأت هذه المشكلة تأخذ منحى الظاهرة التي تكبر وتتكرر مع الأيام، عند كل حادثة تستجد أو خبر يُنشر مما يجري داخل تلك الدول. وتبرز خطورة هذه الظاهرة من خلال عدة جوانب عالية الحساسية، تدعو إلى الوقوف عندها وطرحها للبحث وصولاً إلى اتخاذ كافة التدابير التي تكفل تصحيح هذا الاعوجاج، والحدّ من هذه الممارسات الضارة غير المسؤولة، من خلال تسليط الضوء على المشكلة وأبعادها، وإبرازها للناس وتوعيتهم بخطورتها وعدم قانونيتها، ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ بل يجب سنّ القوانين والعقوبات الرادعة عنها، حتى نضمن امتثال من لا يردعهم سوى لغة العقاب. ولعلي هنا أتناول أبرز جوانب هذه المشكلة فأقول: أولاً: هذه الممارسة غير المقبولة من التدخل في شؤون داخلية لدول أخرى، يكاد يكون أبرز جوانب خطورتها أنها غالباً ماتخرج في قالب حزبي مقيت، وتنطلق من منطلقات مؤدلجة لدى فئة معينة من السعوديين، ممن يعتقدون أن انتماءاتهم الحزبية، وقناعاتهم الفكرية، تمنحهم الحق كاملاً في اقتحام شؤون الدول الأخرى الداخلية، والاصطفاف إلى جانب شركائهم في الحزبية والفكر، ولو على حساب أمن واستقرار الدول التي ينتمي لها أولئك الآخرون. ثانياً: استمرار هذه الممارسة غير المقبولة، وزيادة وتيرتها مع الأيام، يؤديان بلا شك إلى استفزاز وتحريض الآخرين من مواطني تلك الدول للتدخل في شؤوننا الداخلية وإقحام أنفسهم في مناقشة قضايانا وإطلاق الأحكام على ما يجري داخل وطننا من أمور لا تخص غيرنا، وحينها لا يمكننا مطالبة الآخرين بالكفّ عن ذلك مهما كان تدخلهم أو آراؤهم مؤذية لنا، وضارة بنا، لأننا سمحنا لأنفسنا بالتدخل في شؤونهم. ثالثاً: لا تصدر مثل هذه الممارسات من التدخل في شؤون الآخرين إلا من توافه الناس وفارغي الفكر منهم، ومن هم في أدنى مستويات تقدير العواقب وحسن النظر في مآلات الأمور؛ فلا نرى مثل هذه الممارسات تصدر عن عالم شرعي معتبر، أو عن أحد المسؤولين المحسوبين على الدولة. ومع ذلك فإنها كلما ازدادت وتيرتها وعلا صوت المنخرطين فيها، تؤثر أسوأ الأثر في صورة السعوديين بالكامل، وقد تؤدي إلى إلحاق الضرر بالسعوديين المقيمين أو الزائرين لتلك الدول أو بمصالحهم فيها. رابعاً: لا يقف قبح هذه الممارسات عند إلحاق الأذى بالدول الأخرى والتشويش على مواطنيها، بل يتجاوزه إلى ما هو أقبح وأشنع من تحول مثل تلك القضايا إلى أداة انقسام بين أفراد المجتمع السعودي الداخلي، حتى صرنا نرى السعوديين ينقسمون فيما بينهم حول قضية داخلية حدثت في دولة أخرى، ويبدأون الجدل والاختصام حولها، والتراشق فيما بينهم بأسوأ صور الاتهامات والشتائم وإطلاق الأحكام الشنيعة بعضهم على بعض. بينما أصل هذه الفتنة كان شأناً لا يعنيهم. خامساً: تزداد خطورة هذه الممارسات غير المسؤولة، حين تصدر بحق دول شقيقة من إخواننا في الدول الخليجية، أو العربية القريبة منا، ونظراً لكثرة عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من السعوديين على مستوى المنطقة، تبدأ هذه الممارسة في الانتشار والظهور بشكل لافت، حتى تكاد تقود إلى ما لا تحمد عقباه من الآثار في علاقاتنا بأشقائنا الخليجيين والعرب. سادساً: ومن العوامل التي قد تسهم في زيادة ضرر وخطورة مثل هذه الأعمال المقيتة، حين تصدر في أوقات الأزمات والحروب وأوقات الفتن التي تشهدها المنطقة، كما هي الظروف اليوم، إذ تنطوي هذه الممارسات غير المقبولة على إضرار بالغ بمصالح المملكة الخارجية، وانسجام علاقاتها مع أشقائها الخليجيين على وجه الخصوص، والعرب على وجه العموم، لأن آخر ما يعني هؤلاء التوافه من المتدخلين في شؤون غيرنا؛ هو مصالح وعلاقات دولتنا مع أشقائها. فما الذي يعطي لهؤلاء الحق في إطلاق ألسنتهم وأقلامهم، بالشتائم والعبارات الجارحة والأحكام غير المسؤولة تجاه دولة من الدول الشقيقة التي قد تكون أكبر حليف لنا في قضايانا الخارجية، على شأن من شؤونها الداخلية الخاصة بها وبمواطنيها؟! سابعاً: هناك ارتباط وثيق بين هذه الممارسة غير الأخلاقية، وبين فكرة إلغاء واستنكار الانتماء الوطني للفرد، وتوافق تام بين هذه الأفعال وبين ما يؤمن به قادة بعض الأحزاب ومنتسبيها، من فكرة (الأمة الواحدة) التي أساؤوا في تصويرها وتنزيلها على غير ما أراد الله لها، فأصبحت تعارض مصلحة الدولة وتقوض أمنها واستقرارها. فهم بحجة (الأمة الواحدة) يمنحون أنفسهم كامل الحق في إطلاق ألسنتهم وأقلامهم في التدخل السافر في شؤون الدول الأخرى، والتشغيب على حكوماتها، وتشويش علاقتهم برعاياهم، والانتصار لمن يشاركهم الفكر والانتماء الحزبي على حساب باقي مواطني بلده، وحكومته وقيادته. ثامناً: تنطوي هذه الممارسات في ثناياها وتفاصيلها، على أبشع الأفعال المحرّمة شرعاً، والمجرّمة قانوناً، من إطلاق أحكام التكفير والتفسيق والتبديع على الآخرين من المسلمين المخالفين، ومن الإساءة لقضاء تلك الدول وما يصدره من أحكام، ومن زرع روح الفرقة والفتنة داخل مجتمعات تلك الدول، وتحريضهم على حكوماتهم وزيادة هوة الخلاف بينهم، ومن توسيع دائرة الخلاف بين أفراد المجتمع الواحد داخل تلك الدولة، ومن حملات الكراهية والبغضاء المحمومة، وعبارات السب والتشهير المسمومة، وصولاً إلى افتراء الكذب وبثّ الإشاعات وارتكاب كل ما يصدق عليه وصف القبح والمنكر، لمجرد الانتصار لآرائهم وأهوائهم. هذه أبرز ما خطر في بالي الآن من أخطار هذه الممارسة القبيحة، التي أتمنى سرعة مبادرة العقلاء وذوي الحلّ والعقد لكبحها وقتلها في مهدها حتى لا تستشري وتحرق كل ما حولها من أفكار الخير ومساعي التقارب بين المسلمين، وأؤكد أن التهاون في التعامل مع هذه المشكلة يقود إلى تحريض شريحة أكبر من الجمهور وأنصاف وأرباع المتعلمين والمثقفين للانخراط في هذه الممارسة حين لا يرون لها نكيراً ولا عنها زاجرا. فتصبح مثل كرة الثلج التي نعجز مستقبلاً من السيطرة عليها. أسأل الله أن يهدي ضالنا، ويصلح حالنا، ويوفق ولاة أمرنا وعلماءنا لما فيه خيرنا.. آمين والحمد لله أولاً وآخرا.
الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني