النقد بين الأمل والإحباط

النقد بين الأمل والإحباط
مقال أسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض

النقد الذي يمارسه الكثير من كتّاب الرأي في الصحف، والإعلاميون في سائر وسائل الإعلام الوطنية، والشخصيات الوطنية من ذوي الخبرات المتنوعة، الذين يحلّون ضيوفا على البرامج الحوارية في الإعلام؛ كل ذلك يحمل الكثير من الحبّ للوطن، والحرص على مصالحه، والرغبة الأكيدة في المساهمة في الارتقاء به.

ويأتي هذا النقد مختلفا باختلاف الخلفيات الفكرية والثقافية والعلمية لدى هؤلاء الكتّاب والمثقفين والإعلاميين وغيرهم من أبناء الوطن، وهذا الاختلاف والتنوع هو الذي يرسم خارطة الوطن، ويشكّل لوحته الفنية الباهية بمختلف ألوانها، وكلّ لون بديع في مكانه، ولكل لون دلالته، فليس الأصفر أجمل من الأخضر، ولا الأحمر أبهى من الأزرق.

ومن المظاهر السلبية في التعامل مع هذا النقد أن يتذمر منه بعض المسؤولين ويضيقون به ذرعا، أو ينظر إليه بعض أفراد المجتمع نظرة قاصرة فيحرفونه عن مساره الطبيعي إلى مسارات تضر بالمصلحة الوطنية، أو تثقل الوطن بهموم هو في غنى عنها، تشغله عن الهموم الحقيقية، والأخطار الفعلية.

فبعض المسؤولين لا ينظر إلى النقد الموجه لإداراتهم باعتباره مصدرا ثريا يعينهم على ملاحظة بعض السلبيات في أداء تلك الإدارات، ووسيلة فاعلة يمكن الإفادة منها في مشروع التطوير والإصلاح، ويغلقون كل قنوات استقبال هذا النقد والتعامل إيجابيا معه، وإخضاعه للفحص والبحث للتحقق من مدى واقعيته، وكيفية التعامل مع مضمونه، ويفتحون بدلا عن ذلك قنوات التشكيك في هذا الناقد، في نواياه، وفي فهمه.

ويعتبرون النقد خطرا يهدد الوطن مثل باقي الأخطار الداخلية والخارجية، أمنيا وعسكريا، واقتصاديا وسياسيا، بذريعة أن هذا النقد (يؤلب الناس، ويزيد الاحتقان، ويشكك في إنجازات الوطن)!.

وبعض أفراد المجتمع – سيما في وسائل التواصل الاجتماعي – يوظفون النقد وسيلة للتراشق الفكري، وتصفية الحسابات، وتبادل تهم التخوين وعدم الوطنية، وينحرفون بالنقد الإيجابي عن مساره إلى مسارات أخرى ضارة بالسلم الاجتماعي، والأمن الفكري، والولاء للوطن، والعمل لمصلحته العليا.

وبين هؤلاء وهؤلاء لا أنفي أنه يوجد فئة تتستر وراء ستار (النقد) لتوجه سهامها إلى وحدة الوطن، وسكينة المجتمع، وتقتنص الفرص لتجميع السلبيات ونفخها وتضخيمها، وجعلها هي الصورة المكبّرة التي تعبّر عن الواقع، فيقع الناس عامة والشباب خاصة فريسة سوداوية قاتلة، وتسري إلى نفوسهم أبشع مشاعر الإحباط واليأس، حتى يبغضوا الوطن والعيش فيه.

والمشكلة تكمن في أنه يصعب أحيانا التفرقة بين الوطنيين المخلصين في نقدهم، الذي يصدر عن حبّ صادق للوطن، وحرص أكيد على ارتقائه ونهضته وازدهاره، وذلك ما لا يكون بغير النقد الواعي الصادق الناصح، وبين الفئة الأخرى السوداوية التي تستغلّ النقد لتطوي تحت شعاره أسلحة الحطّ من مكانة الوطن، وتشويه صورته، وإحباط نفوس أبنائه.

فلا يمكن أن نعتبر (حدّة النقد) ما دامت في حدود الأدب والمصداقية، أنها معيار للتفرقة بين هؤلاء وهؤلاء؛ وذلك لعدة أسباب أهمها، أن الحدة قد تعني صدق الحب والغيرة والاحتراق الداخلي الذي يعيشه المواطن الناقد المخلص، وكم من محب يقسو على حبيبه ويكون في أطراف هذه القسوة السلامة والعافية.

كما أن عدو الوطن – وإن كان يحمل جنسيته – الذي يريد بنقده خرابا لا إصلاحا، قد يتسلل إلى غاياته الدنيئة، من خلال عبارات ليست بذات القسوة والحرارة التي استعملها الناقد الوطني المخلص؛ إلا أنها تحمل في طياتها السم والحقد، وتضرب مقاتل الوطن.

والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه، سيما في هذه المرحلة الحساسة التي يمرّ بها الوطن:

كيف يمكن حماية النقد الإيجابي الوطني المخلص، وتفعيل دوره في الإصلاح ومحاربة الفساد، وكشف مواطن الخلل؟ وتنقية هذا النقد المطلوب المرغوب، من ذاك النقد الضار الخبيث الذي يسعى للهدم والنخر في بناء الوطن من الداخل؟

إن التعامل المثالي – في رأيي المتواضع – يكمن في الشفافية والمواجهة العملية لكل نقد يصدر عن كاتب أو إعلامي أو مثقف من حملة الفكر والقلم، وكشف الحقائق للجمهور – في الحدود التي تحكمها المصلحة العامة طبعا – خاصة في مواضيع النقد التي تتناول أمورا خدمية – وهذا هو الغالب -.

فمن خلال المواجهة بشفافية نستطيع أن نكشف للناس ما يلي:

صحة أو عدم صحة المشكلة التي طرحها الناقد.

الحجم الحقيقي للمشكلة.

الجهود المبذولة لمواجهتها.

نسبة هذه المشكلة أمام الإنجازات والإصلاحات والإيجابيات.

فإنه متى ما تبينت هذه الجوانب وكشفت بوضوح للجمهور، سيمكن وخلال فترة قصيرة للجمهور نفسه أن يمحّص هؤلاء الناقدين فيميز الخبيث من الطيب، وينكشف مدى المصداقية.

وفي تجربتي الشخصية من خلال انتقادات عديدة وجهتها لوزارة العدل، حول أكثر من موضوع، كان تعامل الوزارة مع هذه الانتقادات مثالا يحتذى.

فتارة تم التواصل معي وتوضيح الكثير من جوانب المشكلة التي تعرضت لانتقادها، وظهر لي مدى الجهود المشكورة التي تبذل لمواجهتها ما جعلني أعود لكشف المعلومات والايضاحات التي اطلعت عليها، وتناولتها إعلاميا لتكتمل الصورة أمام الجمهور.

وتارة بصدور قرار من معالي وزير العدل رئيس المجلس الأعلى للقضاء، أكد على عدم قبول السلبية التي انتقدتها، ووضع عدة معالجات وإجراءات جادة لمواجهتها.

وكان التواصل في المرة الأولى، والتفاعل في الثانية، يمثّلان صورة مشرقة تعكس مدى وعي المسؤولين في وزارة العدل – وعلى رأسهم معالي الوزير – بأهمية النقد ودوره، وتعاملهم الايجابي البنّاء مع النقد. وهذا المثال ينبغي أن يكون أنموذجا يستلهمه المسؤولون في كافة القطاعات لنفيد من النقد الإيجابي، ونحاصر النقد غير الموضوعي بكشف عواره للمجتمع.

وختاما أهمس بكلمة: إنني حين أتوقف عن النقد لا يعني ذلك انتهاء السلبيات ووصولنا إلى درجة الكمال؛ بقدر ما يعني أني فقدت الأمل في الإصلاح وفي جدوى النقد، لذا فنحن نملك الأمل، ونصرّ على إصلاح العمل، وسنبقى هكذا دوما بإذن الله.

والحمد لله أولا وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني