افهموا مرتكز استقلال القضاء في المملكة أولاً

استقلال
مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
حين يتناول البعض موضوع (استقلال القضاء) ويناقشونه، ونسمع الدندنة حول بعض أحكام القضاء السعودي ومحاولات الطعن والتشكيك فيها بدعوى عدم استقلال القضاء، فإنهم جميعا ينطلقون من الفكرة الوضعية المطبقة في الدول الحديثة والتي تقوم على أساس (الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، إلا أنه يغيب عن أذهان هؤلاء المنتقدين والمشككين (جهلا أو قصدا) أن نظام الحكم في المملكة العربية السعودية قد اختار الأخذ بنظام الدولة الإسلامية، ويقوم أساسا على مبدأ الحكم بشريعة الله عز وجل في كل نواحي الحكم والإدارة. وبالتالي فإن من المبادئ الأساسية فيها، الفصل التام بين السلطة التشريعية، وبين السلطتين القضائية والتنفيذية، على اعتبار أن التشريع لا يستقى ولا يستمد إلا من الله عز وجل، مما جاء في القرآن الكريم أو على لسان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن رب العالمين. وما عدا هذين المصدرين للتشريع، لا يتجاوز دور العلماء سوى الاجتهاد في استنباط الأحكام من نصوص الشريعة، فإذا ما تبين الحكم الشرعي وأصبح واضحا ثابتا، لم يعد بوسع أي أحد مخالفته كائنا من كان. وإضافة إلى مبدأ حصر حق التشريع في نصوص القرآن والسنة، يأتي مبدأٌ آخر أساس في الدولة الإسلامية وهو أنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) أيا كان هذا المخلوق حتى لو كان الحاكم نفسه، فلا طاعة له في أمر يكون مخالفا لأمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. فالقضاة في الدولة الإسلامية، منذ عهد النبوة والخلفاء الراشدين، وإلى يومنا هذا في الدول التي تطبق أحكام الشريعة الإسلامية وعلى رأسها المملكة، لا يمكن أن يخضعوا لسلطة أحد أو تأثير جهة إلا لأحكام الشريعة الإسلامية. والقضاء في الإسلام هو: الإخبار عن حكم الله عز وجل مع الإلزام به. بينما لا يتجاوز دوره في القانون الوضعي: تطبيق أحكام القوانين التي وضعتها السلطة التشريعية في الدولة. ولا يعني هذا أبدا غلّ يد الحاكم في الدولة الإسلامية عن وضع التنظيمات والقوانين التي ترتب أمور الحكم وعلاقات الناس فيما بينهم في المسائل التفصيلية التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، فهذا مما لا تستقيم إلا به الدول والأحوال، وهو باب واسع من أبواب السياسة الشرعية والمصالح المرسلة. ويبقى القول الفصل في كل الأمور لأحكام الشريعة الإسلامية التي لا يجوز أن يعلوها حكم ولا يتعارض معها تنظيم. والمملكة العربية السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي يقوم نظام الحكم فيها على أساس أن دستورها هو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وقد أكدت ذلك في المادة الأولى من نظامها الأساسي للحكم. وفي المادة السابعة من هذا النظام أكدت أنه: "يستمد الحكم في المملكة سلطته من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة". وفي المادة السادسة والأربعين: "القضاء سلطة مستقلة، ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية". إذاً فالقضاة في المملكة – بفضل الله – لا يشابه استقلالهم استقلال أي قضاة في دول العالم، ولا يقاس به أي قضاء يقوم على أساس الأحكام الوضعية؛ فإذا كان القضاة في الدول غير المسلمة أو التي لا تطبق الشريعة، يدور فلك استقلالهم بسلطتهم في تطبيق نصوص القانون الوضعي الذي وضعه بشرٌ مثلهم، ويخضع كل يوم للتبديل والتغيير حسب الأهواء والآراء؛ فإن القضاة في المملكة يستمدون استقلالهم التام من خضوعهم هم وغيرهم من كل سلطات الدولة ورجالها بمن فيهم الحاكم، لنصوص وأحكام الوحي المطهر ممثلا في القرآن والسنة، فلا يملكون حق تعديله ولا تحريفه ولا التنكر له في أحكامهم. وينطلق قضاة المملكة بصفتهم يستمدون سلطتهم من الشريعة الإسلامية ونصوص الوحي المطهر المعصومة، من وازع ديني بلغ الغاية في التشديد والوعيد على عظمة الذنب وخطير العصيان الذي يقع فيه القاضي أو غير القاضي الذي يحكم بغير ما أنزل الله أو بما يعتقد أنه يخالف شريعة الله، مستحضرين في أذهانهم وواضعين نصب عيونهم قول الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقوله سبحانه: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" وقوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون". والحديث النبوي العظيم الشهير: إن القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وقاض في الجنة.. الخ الحديث. والكثير من النصوص الشرعية العظيمة التي ترتعد فرائص القاضي المسلم وهو يستحضرها عند إصداره لحكمه. وهذا الوازع الديني المتجذر في نفوس القضاة في المملكة هو المفهوم الوحيد لما نصت عليه المادة (46) من النظام الأساسي للحكم المشار إليها أعلاه، بأنه لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية. إن هذه المنطلقات والأسس النابعة من الشريعة الإسلامية، والمتجذرة في نفوس رجال القضاء في المملكة، بما يدينون الله به في نفوسهم، وما تربوا عليه وتعلموه في مدارسهم ومناهجهم، كل ذلك يمثل سياجا حصينا، وسدا منيعا، يحول دون أي تدخلات في القضاء وأحكامه، ويضع القاضي مباشرة أمام رقابة الله عز وجل، لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يستقي أحكامه من غير مصادر الشريعة وأحكامها وما لا يتعارض معها من أنظمة وضعها ولي الأمر لترتيب أمور الناس والحكم. هذه الحقيقة الدامغة، والقاعدة الأساسية، يتجاهلها كل من يلمز أحكام القضاء في المملكة أو يحاول النيل منها أو التشكيك فيها. ولكل ناعق بمثل هذه الشكوك نقول: مهما بذلتم من جهود، أو حاولتم من وسائل، فلن تبلغوا معشار ما منّ الله به على القضاء السعودي من استقلال وشرعية وسيادة، إلا أن تلتزموا ما التزمته المملكة العربية السعودية في نظام حكمها من تحكيم الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحكم والحياة. أسأل الله أن يديم علينا هذه النعمة العظيمة التي هي أساس أمننا، ومنطلق عزتنا، وجالبة النعم ودافعة النقم عنا بفضله سبحانه.
الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني