أثر الخصخصة على الاختصاص القضائي.. شركة المياه الوطنية مثالاً

الخصخصة
مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

تتوجه الكثير من الدول الحديثة إلى تحويل قطاعاتها الحكومية العامة إلى قطاعٍ خاص، وتوسيع دائرة الاعتماد على القطاع الخاص في إدارة مرافق الدولة، خاصةً الخدمية منها.

وبعيداً عن الخوض في مدى ملاءمة مثل هذه السياسة الاقتصادية، وإيجابياتها وسلبياتها، لا يخفى أن لمثل هذا القرار آثاراً قانونيةً عديدة وفي جوانب كثيرة، لعل أبرزها ما يكون لها من آثار على الأمان الوظيفي للموظفين العاملين في القطاع الذي تمت خصخصته، وما يؤدي إليه ذلك من آثارٍ على ملفات البطالة وتوطين الوظائف، وحقوق الموظفين.

وهذا أيضاً ليس محل حديثي اليوم؛ إنما الجانب الذي أود تناوله وأرى أهميته، ومن خلال خبرتي القضائية السابقة، والخبرة في المحاماة حالياً، ألامس مدى تأثيره الكبير على حقوق المتعاقدين مع هذه الكيانات الجديدة التي آلت إليها إدارة المرافق، وأين ينعقد الاختصاص القضائي في نظر الدعاوى الناشئة عن هذه العقود؟

وللوهلة الأولى قد يعتقد غير المتخصص أن هذه الإشكالية ليست ذات أهميةٍ كبيرة، ولا يترتب عليها كبيرُ أثر، لأن الأهم في الموضوع هو كفالة حق المتعاقد مع تلك الشركات الجديدة في اللجوء للقضاء الطبيعي المتوافرة فيه كافة ضمانات التقاضي، وبالتالي فلا أهمية لاختلاف المحكمة بين القضاء الإداري أو العادي.

لكن الحقيقة التي يعرفها المتخصصون في القضاء والقانون جيداً، أن هناك فارقاً كبيراً بين أن يتصدى القضاء الإداري لنظر المنازعات الناشئة عن هذه العقود، ويسبغ عليها مبادئه وقواعده المعروفة المستقرة، وبين أن يتصدى لنظر تلك النزاعات القضاء العادي المدني، ويطبق عليها قواعده ومبادئه.

والذي عليه العمل حالياً في ديوان المظالم بالمملكة هو أنه بمجرد تخصيص أيٍ من المرافق العامة، وتحويل تشغيله إلى شركةٍ من شركات القطاع الخاص – حتى لو كانت مملوكةً بالكامل للدولة – فإنه ينفض عنها يده، ويقضي بعدم اختصاصه ولائياً بنظر النزاعات الناشئة عن العقود التي تكون تلك الشركة طرفاً فيها؛ بغض النظر عن محل وموضوع هذه العقود حتى لو كانت لتشغيل أو تنفيذ مشروعات عامة.

ولعل من أكثر الأمثلة الصارخة على هذه القضية الشائكة، ما يجري عليه العمل حالياً في العقود المبرمة مع شركة المياه الوطنية، إذ بمجرد صدور قرار تأسيس شركة المياه الوطنية بقرار مجلس الوزراء بتاريخ 12 / 1 / 1429ه بدأت وزارة المياه والكهرباء تدفع الدعاوى المقامة ضدها عن عقود مشروعات المياه والصرف الصحي، بعدم صفتها في هذه الدعاوى عملاً بالقرار المذكور الذي تضمن أنه: "تنقل جميع التزامات الدولة المالية والتعاقدية ذات العلاقة بتلك القطاعات إلى الشركة وفق المراحل التي تحددها وزارة المياه والكهرباء" وبدأ ديوان المظالم يصدر الأحكام بعدم اختصاصه ولائياً بنظر هذه الدعاوى عند إقامتها على شركة المياه الوطنية، باعتبارها ليست جهة حكومية.

حتى في العقود التي سبق أن أبرمتها وزارة المياه والكهرباء مع المقاولين، وكان طرحها وترسيتها وتنفيذها كله خاضعاً لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية، لم تسلم من الحكم بعدم اختصاص القضاء الإداري بنظرها، أخذاً بهذا المعيار الشكلي وهو أن طرف الدعوى الآخر ليس جهة حكومية.

وظلت الدعاوى من هذا النوع تترنح مدةً من الزمن – وإلى اليوم – ضائعةً في الاختصاص بين (القضاء الإداري – والقضاء التجاري – والقضاء العام) فالقضاء الإداري يحكم بعدم اختصاصه للاعتبار المشار إليه، والقضاء التجاري يطبق عليها معايير اختصاصه بنظر النزاعات التجارية، ويقرر عدم اختصاصه إذا كانت هذه العقود لا تشتمل على توريد المواد، وتقتصر فقط على تنفيذ الأعمال المتعاقد عليها دون تأمين المواد، ثم إذا اتجه المتقاضون إلى القضاء العام في المحاكم العامة، حار القضاة في نظرها فمنهم من يحكم بعدم اختصاصه، ومنهم من ينظرها ولا يدري بأي قواعد ومبادئ يحكم فيها؛ أبمبادئ وقواعد القضاء الإداري لكونها في الحقيقة عقود تشغيل وتنفيذ مشروعات لتسيير مرافق عامة، أم بقواعد ومبادئ القضاء العادي وأحكام الفقه الشرعية التي تحكم العقود العادية؟!

وطالما طرحتُ هذه الإشكالية على أصحاب الفضيلة من كبار قضاة الاستئناف والمحكمة العليا في ديوان المظالم، وحاولتُ مجادلتهم في عدم منطقية تجريد نزاعات هذه العقود عن طبيعتها الأساسية، وحكمها بعيداً عن مبادئ وقواعد القضاء الإداري التي لم توضع إلا لها، وكانت نتيجة حواراتي ونقاشاتي أن حلّ هذا الإشكال ليس في يد قضاة ديوان المظالم، وأن عدداً منهم مع قناعتهم بوجاهة وصحة ما أطرحه من رأي، لا يملكون القدرة على تغيير هذا التوجه الذي لابد لصاحب سلطةٍ وقرارٍ أن يتدخل لتصحيحه، أو على الأقل طرحه للنقاش والبحث.

ومن العجيب أن القضاء الإداري في ديوان المظالم يحكم في هذه العقود بعدم الاختصاص أخذاً بالمعيار الشكلي للاختصاص وهو أن المدعى عليها ليست جهةً حكومية؛ بينما في التمييز بين قرارات الضبط الجنائي والضبط الإداري يأخذ بالمعيار الموضوعي، وهو معيار موضوع العمل، ويبني على ذلك تقرير الاختصاص بغض النظر عن كون المدعى عليها جهة إدارية أم لا!.

إن عقوداً تم طرحها وترسيتها وتنفيذها وفقاً لأحكام نظام المنافسات الحكومية، ومارست فيها الجهة المتعاقدة نفس امتيازات وسلطة جهة إدارية في العقود الإدارية، وكان محل هذه العقود وموضوعها هو مشروعات المرافق العامة، مثل تأمين المياه وتنفيذ مشروعات الصرف الصحي في شركة المياه الوطنية، لا يستقيم بحالٍ من الأحوال أن نعهد بالنظر في نزاعاتها إلى قضاءٍ غير القضاء الإداري، ونبقيها ضائعةً دون تحديد نوع المبادئ والقواعد التي تحكمها.

وإذا كان ديوان المظالم يصر على الاستمرار في هذا المبدأ والتوجه؛ فإني أطرح سؤالاً قد يكشف لنا عن المقصود، وهو: ماذا سيكون مصير العقود الإدارية التي نص عليها نظام ديوان المظالم فيما لو ازدادت وتيرة الخصخصة للمرافق مع الأيام، وتوجهت الدولة إلى خصخصة نسبةٍ كبيرة من مرافقها وقطاعاتها العامة؟ قد يجد ديوان المظالم نفسه في ظل هذا التوجه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التمسك بهذا المبدأ والبقاء بلا عملٍ يُذكر. وإما بتعديل هذا المبدأ والعودة إلى الأخذ بالمعيار الموضوعي للعقود، وهو ما ينبغي المبادرة به اليوم قبل الغد.

والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني