أستاذي.. لولاك ما كنتُ هنا ولما كنتُ أنا

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

كلما شرعتُ في كتابة مقال، أو إعداد بحث أو مذكرة، أو مشاركة علمية أو إعلامية، عادت بي الذكرى إلى عدد كبير من الأساتذة والمشايخ والمربّين الفضلاء الذين صنعوا مني هذا الإنسان الذي يكتب ويبحث ويشارك ويُعبّر ويفيد

ويستفيد.

وكلما دار حوارٌ حول حقوق المعلم، ومكانة المعلم، أعرتُ هذا الحوارَ سمعي، وتذكرتُ أن هذا المعلم الذي يتحدثون عنه هو الذي كنتُ بالأمس ِعالة عليه في طلبي للعلم، وحرصي على الفهم، وكنتُ أستهدي بنوره، وأقتبس من أخلاقه، وأتكوّن وأُصنعُ بين يديه.

كثيرون جداً هم المعلمون الفضلاء، والأساتذة النبلاء، والمشايخ ذوو السمت والخلق، الذين أثّروا في حياتي، وأفادوني ما أنا عليه اليوم من العلوم والمعارف. وكلما خطر على البال بعضُهم، واستعادت الذكرى شيئاً من فضائلهم ومننهم عليّ، أجدني أقف عاجزاً عن معرفة السبيل إلى القيام بحقهم، والوفاء بشيء من فضلهم.

وكم مضى عليّ من السنوات في مضمار الكتابة الصحفية، والمشاركات الإعلامية، مما أجده صار عليّ لزاماً أن أرسل رسالة وفاء إلى المعلمين عامة وأساتذتي وشيوخي منهم خاصة. وأؤكد لهم أنه مهما شعروا من تلاميذهم بشيء ٍ من الجفاء، أو ظنوا بهم قلة الوفاء، إلا أنه لا يمكن أن تخلو ساحة التلاميذ من أوفياء يحتفظون لهم بالفضل، ويدينون لهم بالحق.

كما أنه لا يمكن أن تخلو ذاكرة ُ تلميذ أبداً - مهما قلّ وفاؤه - من صورة أو صور، لمواقف كريمة أسبغها عليه بعضُ أساتذته ومعلميه. فلا يذهب العرفُ عند الله والناس.

أما أنا فأزعم وأكاد أجزم، أني كنتُ من أسعد الناس وأكثرهم حظاً بما وفقني الله إليه من اجتماع عدد كبير من ذوي الفضل والعلم، ومن رجال التربية الأكفاء، الذين منّ الله عليّ بالتعلم على يديهم. ابتداء بالمرحلة الابتدائية، وإلى مرحلة الدراسات العليا.

وإذا كنتُ اليوم أكتب عن أساتذتي خاصة، فإنها رسالة إلى كلّ معلم أن يضع نصب عينيه غرس ذكراه الطيبة في نفوس وذاكرة تلاميذه، فسيأتي اليوم الذي يذكرونه بكل فضل، وقبل ذلك فما عند الله خيرٌ وأبقى.

كنتُ بفضل الله ومنذ المراحل المبكرة لطفولتي، أشعر بالكثير من الامتنان لبعض أساتذتي خاصة، وأحاول جاهداً أن أبدي لهم ولو قليلاً من العرفان والشكر على ما أراهم يبذلونه لتلاميذهم من حبّ ونصح وتأديب.

والمعلم هو الأساس الذي يصنع مكانته بيده، ويضع نفسه أو يرفعها في نفوس تلاميذه. بل لا يقف الأمر عند حدّ حب التلاميذ لشخص المعلم الذي يعاملهم بالحب والنصح؛ إنما يتجاوز حبهم له إلى حبهم للمادة والتخصص الذي يتولى تدريسه لهم، وقبول ما يصدر عنه من نصائح وإرشادات خارج حدود المادة الدراسية.

وإذا بلغ المعلمُ من تلميذه مبلغ الثقة والحب والاحترام، فإنك ترى ذلك التلميذ يتجاوز بعلاقته مع أستاذه حدود المدرسة، ليعرض عليه همومه، ويشتكي إليه ما يحزنه، ويشاوره في كلّ ما ألمّ به، حتى يكون أقرب إليه في كثير من الأحيان من والديه اللذين أنجباه.

كم هو مقدار السعادة حين يلتقي الطالبُ معلمَّه على كِبر، ويرى أحدهما الآخر بعد دهر، فيُقبِل الطالب على معلمه يُقبّل رأسه، ويجدد شكره لفضله، ويُبشّره أنه أصبح كذا وكذا في درجات العلم أو مواقع المسؤولية والعمل، ليرى المعلمُ حينها أن غرسه أثمر، وأن إحسانه إلى تلميذه لم يندثر.

أروني عملاً شريفاً سامياً أسمى من مهنة المعلم! وهل القاضي أو المفتي أو الطبيب أو المهندس أو حتى الأمير والملك إلا نتاجاً للمعلم وحسنة من حسناته!

مشايخي وأساتذتي الكرام..

إني وإن طوّحت بي الدنيا في سُبُلها وفجاجها، وأبعدتني عنكم صروف الدهر وظروف الحياة، لم ولن أنسَ لحظة واحدة من لحظات فضلكم، ولا بصمة من بصمات حُسن تعليمكم وتهذيبكم وصبركم.

فاليوم وأنا أكتب في هذه الصحيفة الرائدة – صحيفة الرياض – أبَيتُ إلا أن أبعث لكم من خلالها – وهي صرحُ الوفاء – شيئاً من وفائي لكم.

فلولاكم جميعاً – بعد توفيق الله وفضله - ما كنتُ اليوم هنا، ولا كنتُ كما أنا.

أسأل الله أن يجزي الأحياء منكم والأموات خير الجزاء، وأن يبارك للأحياء في ذرياتهم وأعمارهم وأعمالهم آمين.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني