أحكام العقود بين الفقه والقضاء

مع توجه المملكة الواضح نحو تحقيق أحد أهم أهداف ومحاور رؤية 2030 وهو جعل اقتصاد المملكة يتصف بالتنافسية الجاذبة، وأن من أهم وسائل ذلك المعلنة في الرؤية، التنسيق مع السلطات التشريعية لمراجعة الأنظمة الحالية بهدف تحسين بيئة ممارسة الأعمال وإنفاذ العقود.
ومع الاهتمام المعلن بالقضاء التجاري باعتباره هو الجهة المعول عليها بالدرجة الأولى لتنفيذ هذا الهدف من خلال مراعاة إنفاذ العقود في النزاعات التجارية التي تنظرها المحاكم.

يتبادر لذهني أحد أبرز هموم هذه القضية المتمثلة في إشكال يواجه الاجتهاد القضائي أثناء نظره للنزاعات التي تثور حول تنفيذ العقود، وهذا الإشكال يتمثل في أن إنفاذ العقد وإلزام أطرافه بآثاره، لا يكون إلا في العقود التي يقرر القضاء أنها عقود شرعية وفق معايير جواز العقود في الشريعة الإسلامية، أما في حال قرر القضاء عدم مشروعية العقد أو شيء من شروطه، فإنه يتجه مباشرة ً إلى الحكم بإهدار حجيته وإعفاء الملتزم فيه من التزامه.

والمعضلة الكبرى في هذا الموضوع تتمثل في أنه رغم ما يعلمه كل من له اطلاع على العلم الشرعي من أن الأصل صحة تصرفات المكلفين، خصوصا في معاملاتهم التي راعى الشرع مصالحهم فيها، وأنه لا يترك هذا الأصل إلا لدليل قوي سالم عن معارض، وأن الأصل جواز معاملات الناس، وصحة استحداث العقود والشروط وابتكار أشكالها؛ إلا أن كثيراً من الأحكام القضائية لا تأخذ بهذا المبدأ، وتتدخل لإبطال العقود والحكم بفسادها وإهدار آثارها، بناء على اجتهاد ٍ يقرر عدم مشروعية العقد أو الشرط ، وكثير من هذه الاجتهادات عند التحقيق والتأمل يظهر عدم صوابها ومخالفتها لمصالح الناس ومقاصد الشريعة.

وهذا القصور والضعف في الاجتهاد منشأه بسبب التزام الكثير من القضاة بتقييد إباحة العقود بما كان منها متوافقاً مع قوالب العقود التقليدية الواردة في اجتهادات الفقهاء في العصور السابقة، وكل عقد ٍ جديد ٍ يعرض على بعض المفتين أو القضاة، يكون اجتهاده مرتكزاً على محاولة تنزيل هذا العقد الجديد على إحدى الصور التقليدية للعقود الفقهية المعروفة في الإرث الفقهي، وبسبب هذا الخطأ ضاعت الكثير من الحقوق، وحُكم بالتحريم والفساد والبطلان على ما لا يستحق هذا الحكم.

ورغم أنه لا يختلف اثنان على أن الفقهاء هم الذين سَمَّوا العقود المعروفة في كتب الفقه، وليس الشرع، وهم في الغالب أخذوها من الاستقراء، وأنه يجوز شرعاً استحداث عقود جديدة في أنواع البيوع المختلفة، حتى ولو لم تكن مسماة في كتب الفقه الموروثة، إلا أن الواقع العملي بخلاف ذلك تماماً.

فصار كل عقدٍ بصورة مستحدثة كأن الأصل فيه التحريم حتى يتأكد المفتي أو القاضي من تطابقه مع صورة وأحكام عقدٍ تقليدي، ليتم إنزال الحكم التقليدي على العقد الحديث!

وبسبب هذا التصور الخطأ رأينا مثلاً الكثير من المجامع الفقهية تصرّ على توصيف عقد الوديعة المصرفية أنه (عقد قرض)! رغم اختلافه الجذري في مفهومه وغاية أطرافه عن عقد القرض التقليدي الذي الأصل فيه هو إحسان المقرض للمقترض بدلالة أنه يؤجر على ذلك؛ بينما في الوديعة المصرفية فالمصرف هو المحسن للعميل المودع وليس العكس، كما أن المصارف تضع شروطاً لقبول الودائع، ولا يتصور العقل أن يكون المقترض المحتاج يملي شروطه على المقرض المحسن إليه!

ومن ذلك عقد المحاماة مثلاً الذي يعتبر بمثابة عقد جديد، بينما يتشاكس حوله الباحثون التقليديون في الفقه ما بين اعتباره عقد إجارة أو جعالة أو وكالة وغير ذلك.

يقول ابن تيمية رحمه الله:" الأَصلَ فِي العُقُودِ وَالشُّرُوطِ الجَوَازُ وَالصِّحَّةُ، وَلَا يَحرُمُ وَيَبطُلُ مِنهَا إلّا مَا دَلَّ عَلَى تَحرِيمِهِ وَإِبطَالِهِ نَصٌّ، أَو قِيَاسٌ عِندَ مَن يَقُولُ بِهِ، وَأُصُولُ أَحمَدَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ المَنصُوصُ عَنهُ أَكثَرُهَا تَجرِي عَلَى هَذَا القَولِ، وَمَالِكٌ قَرِيبٌ مِنهُ، لَكِنَّ أَحمَدَ أَكثَرُ تَصحِيحاً لِلشُّرُوطِ، فَلَيسَ فِي الفُقَهَاءِ الأَربَعَةِ أَكثَرُ تَصحِيحاً لِلشُّرُوطِ مِنه".

كما يكاد يتفق الفقهاء على أنه متى أمكن تحويل العقد الباطل إلى عقد آخر صحيح لتوفر أسباب الصحة فيه، فمثلاً حين يستعرض بعض الفقهاء مسألة مثل استئجار طبيب وتعليق أجرته على البرء، يقولون: صح ذلك وكانت جعالة لا إجارة، فلم يحكموا ببطلانها لجهالة الأجرة.

ومن هذا المبدأ جاء في الشريعة اعتبار العرف أحد مصادر الأحكام الشرعية، وقررت الشريعة إقرار الناس على ما كانوا يتعاملون به من تعاملات مالية، بعد أن شرعت لهم ضوابط محددة يراعونها في تلك التعاملات، فإذا توفرت هذه الضوابط فالحكم الشرعي: (بيعوا كيف شئتم) و (المسلمون على شروطهم).

وهذه دعوة لقضاتنا الفضلاء أن يهتموا بهذا الجانب، إعمالاً لمقاصد الشرع، وتحقيقاً لصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وحفظاً لحقوق العباد، وتحرزاً من أن يحرّموا على الناس ما أحله الله لهم دون دليل يقيني.
والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني